صحيفة الصباح
التباين القاتل بين مفهوم المجتمع والدولة الحديثة وبين الحالة العذرية لبنيتنا الإجتماعية الفقيرة لأبسط شروط الوطنية الجامعة .. لم يقف عائقا أمام انظمة الحكم التي ظهرت بعد مرحلة الإستعمار. في محاولتها استعارة شكل الدولة المعاصرة وفرضها على الواقع تناغما مع إرادة غربية رأسمالية رأت في قيام دول هجينة في مستعمراتها السابقة خدمة لمصالحها الاقتصادية والثقافية وتحويل تلك الشعوب إلى أسواق استهلاكية عملاقة “سوبر ماركت ” لتصريف السلع والقيم ومخازن مفتوحة للطاقة والمواد الخام وحتى اليد العاملة الرخيصة .
لم ينج من التناقض القاتل بين بنية المجتمع الطبيعي وشكل الدولة الحديثة غير التجمعات البشرية في الخليج والتي نجح شيوخها في تطويع المستعار من ملامح الدولة الشكلانية في خدمة نظام قبلي بطرياركي فصارت الدولة في الخليج عبارة عن قبيلة متورمة بفعل الوفرة المالية المؤمنة بتدفق النفط والغاز…
هذا الاغتراب او الالتباس نفسه يمكن الاستعانة به لتفسير أسباب اللحظة الكارثية الراهنة في المشهد الليبي الذي طغى على السطح بعد إنهيار النظام السابق وأدوات الدولة التي كانت تحفظ الوئام الإجتماعي بفضل القوة المحتكرة وتوزيع الامتيازات …
سقط الثوب الحريري الفضفاض لينكشف جسد وحش فرانكشتاين .. ولتظهر بشاعة الترقيعات وضعف المادة المستخدمة في نظم الأطراف المتنافرة وشدها بعضها إلي بعض ..
ماعرته المحنة وتداعياتها المريرة ان الكيان المتخيل – وهو الشعب الليبي – ليس سوى قبائل عريقة ضاربة الجذور في تربة متصحرة لا تنبت الا مايليق بتراث معتق من الحمية والعصبية المناهضة بحكم طبيعتها لكل انواع التنظيم غير المنسجم مع تكوينها كما يشير عبدالرحمن بن محمد في المقدمة الشهيرة ..
وبغض النظر عن النتائج المحبطة التي أسفر عنها التغيير لتفضي في الختام الي انشطار مؤلم في النسيج الاجتماعي الهش ما ادى بدوره الي تكريس سلطة الكيانات القبلية والجهوية والايديولوجية التي تخلقت في ظل التصدعات الافقية التي أحدثها الزلزال ولتتفاعل فيما بعد وفق انساقها التاريخية المعروفة وتعيد صياغة التحالفات القديمة ..
فإن طبيعة الصراع (البدائي / غير السياسي وغير المتمدن ) هي الغالبة في كامل جغرافية البلاد من شرقها الى غربها الى جنوبها حتى وان كانت الشعارات المستخدمة تتلون باصباغ ايديولوجية شديدة البريق ..
هذه الخارطة المحلية المشوشة بفعل المعطيات الداخلية والتدخلات الخارجية والعجز الصارخ الذي تعانيه المكونات السياسية الطارئة في المشهد الليبي من إيجاد المخارج والحلول لحالة التدهور الذي تعيشه البلاد..افسحت المجال الواسع امام الاجتهادات الدولية التي يقودها مبعوثو المنظمة الأممية والتي لا تبدو أهدافها واغراضها واضحة الا على مستوى التحليل الذي يمكن ان يقودنا ببساطة إلى القول إن ثمة نوايا شديدة الوضوح لدى القوى الغربية المؤثرة لأطالة أمد الصراع القائم حتى يقضي الله امرا كان مفعولا او امرا كان مخططا له ومركونا إلى حين في إدراج المؤسسات واجهزة المخابرات لإعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها .